التحديات أمام ليبيا
أمام ليبيا اليوم فرصة تاريخية لتكون واحدة من أنجح الدول العربية، فبعد أن تخلصت من القذافي ونظامه وجماهيريته التي عطلت هذا البلد أربعة عقود، وشردت أبناءه في كل أصقاع العالم، وطاردت أصحاب الكفاءات والمتميزين منهم، أصبحت ليبيا مختلفة، ويفترض أن تكون مستعدة لتكون دولة لها مكانتها وتأثيرها في الاقتصاد والسياسة العالميين.
إن العناصر الأساسية لهذا البلد المحرر تعطيه الفرصة الكبيرة كي يبني نفسه على أسس سليمة ومتميزة، فهو يمتلك ثلاثة عناصر في غاية الأهمية تساعده على القيام بتجربة شبيهة بتجربة كوريا الجنوبية أو سنغافورة، وهذه العناصر هي: النفط والمال، ثم شعبها قليل العدد مقارنة بالمساحة والدخل القومي، إضافة للموقع الجغرافي المتميز، فليبيا تقع على البحر الأبيض المتوسط مقابل أوروبا من جهة، وإفريقيا من جهة أخرى، حيث توجد مصر عن يمينها وتونس والجزائر عن شمالها... إنها بوابة إفريقيا الجديدة.
ما تحتاج إليه ليبيا هو وضع خطة واضحة للمستقبل، وإقامة نظام ديمقراطي سليم، وبناء منظومة اقتصادية قوية، والاستفادة من خبرات الدول التي سبقتها. وعلى الصعيد العالمي يمكن أن تستفيد ليبيا من تجربة كوريا الجنوبية التي خرجت من الاستعمار والحرب قبل أكثر من خمسين عاماً لتصبح على ما هي عليه اليوم، حيث تحولت من بلد فقير يعيش على الزراعة إلى دولة تمثل نموذجاً في الإدارة والاقتصاد والتعليم والصحة.
ومن المفيد أخذ لمحة عن تجربة كوريا الجنوبية؛ فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 ثم الحرب الكورية في عام 1953، وجدت هذه الدولة نفسها أمام مشكلة تمثلت في وجود مليوني لاجئ، وتحولت عاصمتها إلى مدينة مدمرة تماماً، حيث لم يبق في سيول القديمة سوى الخراب. والمفارقة أنه بين عامي 1960 و2000 تحولت كوريا الجنوبية من واحدة من أفقر دول العالم إلى بلد أغنى من بعض الدول الأوروبية.
وبدأت قصة كوريا وتجربتها عندما استعانت بأموال أجنبية في عام 1961 لتشجيع الصناعة، فقد تم ضخ تلك الأموال في الشركات الكورية التي كانت تصنع منتجات تطلبها الشركات الأجنبية، وإن اقتصر الأمر في بدايته على الملابس المقلدة والشعر المستعار، ليتطور إلى صناعة الفولاذ والإلكترونيات والسيارات.
أما كلمة السر والنقطة المهمة لفهم القفزة الصناعية الكبيرة في هذا البلد، فتكمن في الرجال والنساء الذين تعلموا وتخرجوا من الجامعات الكورية، والذين كانوا ركيزة العملية التي نراها أمامنا، فبفضلهم برزت إلى الوجود شركات كورية عملاقة على رأسها سامسونج وهايونداي.
وبالنظر إلى الحالة الكورية، تبدو ليبيا اليوم أفضل حالاً بكثير، لكنها تحتاج لمن يملك الرؤية الواضحة والقرار السليم. أما التجارب العالمية الناجحة فهي كثيرة ويمكن الاستفادة من خبرات وتجارب تلك الدول لاختزال الوقت وتفادي الوقوع في نفس الأخطاء.
أما على الصعيد العربي، فيمكن لليبيا أن تستفيد من تجربة دولة الإمارات، والتي تشبهها في امتلاك الثروة النفطية وفي محدودية عدد السكان نسبياً، فتجربة الإمارات -وهي تحتفل هذه الأيام بيومها الوطني الأربعين- ستفيد ليبيا كثيراً وبلا شك، لاسيما على صعيد الاقتصاد والتنمية البشرية. ودولة الإمارات لا تتردد في نقل تجاربها الناجحة للدول الشقيقة أو الصديقة، فهناك العديد من جوانب التجربة الإماراتية الناجحة استفادت منها دول أخرى على مدى السنوات الماضية.
وليبيا اليوم تحتاج إلى أن تتخلص من رواسب الماضي، ومن المهم أن تركز على التنمية الشاملة بعيداً عن الشعارات الأيديولوجية والأفكار الانتقامية. وسيكون رائعاً لو استطاعت ليبيا الجديدة أن ترسخ المواطنة، وتقوم بتنمية المواطنين ورعايتهم، وأن تستثمر ما استطاعت في التعليم والتأهيل والتدريب، فالعنصر البشري هو الرهان الأهم للنجاح في المستقبل.
هذا ما ننتظره وما نتمناه، وما أشار إليه عبدالرحيم الكيب، رئيس الوزراء الليبي الجديد، من أن ليبيا ستكون "دولة مدنية دستورية تحترم حقوق الإنسان والرأي الآخر، تعمل عبر مؤسسات ترعاها العدالة والمساواة أمام القانون"، كل ذلك يدعو إلى التفاؤل. لكن من الناحية الواقعية ندرك أنه قد يكون من الصعب على الكيب حتى تشكيل حكومة جديدة، إلا بعد أن يثبت المصالحة بين الثوار والمناصرين السابقين للقذافي.
لكن حتى تشكيل الحكومة وتثبيت المصالحة لا يكفيان لوضع أسس بناء دولة المستقبل، فوضوح الرؤية مسألة ستجعل تحقيق الأهداف أسهل وأسرع.
وحتى تصل ليبيا إلى هذه المرحلة وتصبح بعد أربعة أو خمسة عقود بلداً يشار إليه بالبنان، من المهم الإجابة على كثير من الأسئلة التي يطرحها كل متابع للشأن الليبي، ومنها على سبيل المثال: متى وكيف سينتهي الصراع الخفي في ليبيا حالياً؟ وهل يمكن احتواء الخلافات بين الأطياف السياسية هناك؟ وفي آخر المطاف، أي نظام سيتم اعتماده في ليبيا الجديدة؟ وكم ستستغرق عملية الانتقال من جماهيرية القذافي إلى ليبيا المستقبل؟
تعليقات